تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 77 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 77

77 : تفسير الصفحة رقم 77 من القرآن الكريم

سورة النساء
قال العوفي عن ابن عباس: نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه, عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت, ورَوى من طريق عبد الله بن لهيعة, عن أخيه عيسى, عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حبس» وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر, حدثنا محمد بن بشر العبدي, حدثنا مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الاَية, و {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الاَية, و {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} و{لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك} الاَية, {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما} ثم قال: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه فقد اختلف في ذلك, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن ابن مسعود قال: خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعاً {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} وقوله: {وإن تك حسنة يضاعفها} وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما}, وقوله: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيما} رواه ابن جرير. ثم رَوى من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت, أولاهن {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} والثانية {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما} والثالثة {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} ثم ذكر قول ابن مسعود سواء ـ يعني في الخمسة الباقية ـ وروى الحاكم من طريق أبي نعيم عن سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد, عن ابن أبي مليكة: سمعت ابن عباس يقول: سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير. ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** يا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
يقول تعالى آمراً خلقه بتقواه, وهي عبادته وحده لا شريك له, ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة, وهي آدم عليه السلام {وخلق منها زوجها} وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر, من خلفه وهو نائم, فاستيقظ فرآها فأعجبته, فأنس إليها وأنست إليه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا وكيع عن أبي هلال عن قتادة, عن ابن عباس, قال: خلقت المرأة من الرجل فجعل نهمتها في الرجل وخلق الرجل من الأرض فجعل نهمته في الأرض, فاحبسوا نساءكم. وفي الحديث الصحيح: «إن المرأة خلقت من ضلع, وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه, فإن ذهبت تقيمه كسرته, وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج». وقوله: {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءا} أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء, ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم, ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. ثم قال تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} أي واتقوا الله بطاعتكم إياه. قال إبراهيم ومجاهد والحسن {الذي تساءلون به} أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم, وقال الضحاك: واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به, واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها, قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد وقرأ بعضهم: والأرحام بالخفض على العطف على الضمير في به أي تساءلون بالله وبالأرحام, كما قال مجاهد وغيره. وقوله: {إن الله كان عليكم رقيبا} أي هو مراقب لجميع أحولكم وأعمالكم, كما قال: {والله على كل شيء شهيد}. وفي الحديث الصحيح «اعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك» وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض, ويحننهم على ضعفائهم. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النّمار ـ أي من عريهم وفقرهم ـ قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}, حتى ختم الاَية. وقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}, ثم حضهم على الصدقة فقال: «تصدق رجل من ديناره, من درهمه, من صاع بره, من صاع تمره» وذكر تمام الحديث, وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة, وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها {يا أيها الناس اتقوا ربكم} الاَية.

** وَآتُواْ الْيَتَامَىَ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىَ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىَ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النّسَآءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مّرِيئاً
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة, وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم, ولهذا قال: {ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} قال سفيان الثوري عن أبي صالح: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك. وقال سعيد بن جبير: لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم, يقول: لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام. وقال سعيد بن المسيب والزهري: لا تعط مهزولاً وتأخذ سميناً. وقال إبراهيم النخعي والضحاك: لا تعط زائفاً وتأخذ جيداً. وقال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم, ويجعل مكانها الشاة المهزولة ويقول: شاة بشاة, ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم. وقوله {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} قال مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والسدي وسفيان بن حسين: أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعاً. وقوله: {إنه كان حوباً كبيرا} قال ابن عباس: أي إثماً كبيراً عظيماً. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله {حوباً كبيرا} قال: «إثماً كبيراً» ولكن في إسناده محمد بن يوسف الكُدَيْمي وهو ضعيف وروي هكذا عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وأبي مالك وزيد بن أسلم وأبي سنان مثل قول ابن عباس وفي الحديث المروي في سنن أبي داود «اغفر لنا حوبنا وخطايانا». وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل مولى أبي عيينة عن ابن سيرين عن ابن عباس, أن أبا أيوب طلق امرأته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوباً» قال ابن سيرين: الحوب الإثم, ثم قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى, حدثنا هَوْذة بن خليفة, حدثنا عوف عن أنس أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب, فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن طلاق أم أيوب لحوب» فأمسكها, ثم روى ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم عن حميد الطويل, سمعت أنس بن مالك أيضاً يقول: أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم امرأته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن طلاق أم سليم لحوب» فكف. والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه. وقوله: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى}, أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء, فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج, أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق, وكان يمسكها عليه, ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه {وإن خفتم ألا تقسطوا} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله. حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى}, قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها, فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره, فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن. ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق, وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاَية فأنزل الله {ويستفتونك في النساء}, قالت عائشة: وقول الله في الاَية الأخرى {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال, فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال. وقوله: {مثنى وثلاث ورباع} أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين وإن شاء ثلاثاً, وإن شاء أربعاً. كما قال الله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع} أي منهم من له جناحان, ومنهم من له ثلاثة, ومنهم من له أربعة, ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه, بخلاف قصر الرجال على أربع, فمن هذه الاَية كما قال ابن عباس وجمهور العلماء, لأن المقام مقام امتنان وإباحة, فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. قال الشافعي: وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة, وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله مجمع عليه بين العلماء إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة, أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم: بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين, وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري: وقد علقه البخاري وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة, ودخل منهن بثلاث عشرة, واجتمع عنده إحدى عشرة, ومات عن تسع. وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع, ولنذكر الأحاديث في ذلك, قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا معمر عن الزهري, قال ابن جعفر في حديثه: أنبأنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «اختر منهن أربعاً» فلما كان في عهد عمر طلق نساءه, وقسم ماله بين بنيه, فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك, ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك ولاَمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال. وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم, من طرق عن إسماعيل بن علية وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وعيسى بن يونس, وعبد الرحمن بن محمد المحاربي, والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ, عن معمر بإسناده مثله إلى قوله: «اختر منهن أربعاً» وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد, وهي زيادة حسنة وهي مُضَعّفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي حيث قال بعد روايته له سمعت البخاري يقول: هذا الحديث غير محفوظ. والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري. حُدّثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة ـ فذكره. قال البخاري: وإنما حديث الزهري عن سالم, عن أبيه أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال. وهذا التعليل فيه نظر, والله أعلم ـ وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلاً. وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلاً. قال أبو زرعة: وهو أصح. وقال البيهقي: ورواه عقيل عن الزهري: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد. وقال أبو حاتم: وهذا وهم إنما هو الزهري, عن محمد بن سويد. بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فذكره. قال البيهقي: ورواه يونس وابن عيينة عن الزهري عن محمد بن أبي سويد وهذا كما علله البخاري وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد, رجاله ثقات على شرط الشيخين ثم قد روي من غير طريق معمر بل والزهري. قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو علي الحافظ, حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي, حدثنا أبو بُرَيد عمرو بن يزيد الجرمي, أخبرنا سيف بن عبيد الله حدثنا سرار بن مجشر, عن أيوب, عن نافع وسالم, عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً. هكذا أخرجه النسائي في سننه, قال أبو علي بن السكن: تفرد به سرار بن مجشر وهو ثقة. وكذا وثقه ابن معين قال أبو علي: وكذا رواه السميدع بن واهب عن سرار. قال البيهقي: وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس, وعروة بن مسعود الثقفي وصفوان بن أمية يعني حديث غيلان بن سلمة. فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال, فإذا كان هذا في الدوام, ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب, (حديث آخر في ذلك) روى أبو داود وابن ماجه في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حُمَيْضة بن الشمردل وعند ابن ماجه بنت الشمردل, حكى أبو داود أن منهم من يقول الشمرذل بالذال المعجمة عن قيس بن الحارث, وعند أبي داود في رواية الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهن أربعاً», وهذا الإسناد حسن: ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثله لما للحديث من الشواهد. (حديث آخر في ذلك) قال الشافعي في مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول أخبرني عبد المجيد بن سُهيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه, قال: أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى» فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها. فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غيلان كما قاله البيهقي رحمه الله. وقوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}, أي فإن خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن, كما قال تعالى, {ولن تستطيعو أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري فإنه لا يجب قسم بينهن, ولكن يستحب فمن فعل فحسن, ومن لا فلا حرج, وقوله: {ذلك أدنى ألا تعولوا} قال بعضهم ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم, قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي رحمهم الله, وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} أي فقراً {فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء} وقال الشاعر:
فما يدري الفقير متى غناهوما يدري الغني متى يعيل

وتقول العرب: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ولكن في هذا التفسير ههنا نظر, فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري أيضاً والصحيح قول الجمهور {ذلك أدنى ألا تعولوا} أي لا تجوروا, يقال: عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار, وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
بميزان قسط لا يخيس شعيرةله شاهد من نفسه غير عائل

وقال هشيم عن أبي إسحاق قال: كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: إني لست بميزان لا أعول. رواه ابن جرير, وقد روى ابن أبي حاتم وأبو حاتم ابن مردويه وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم, حدثنا محمد بن شعيب عن عمر بن محمد بن زيد عن عبد الله بن عمر عن هشام بن عروة, عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ذلك أدنى ألا تعولوا} قال: «لا تجوروا» قال ابن أبي حاتم: قال أبي, هذا حديث خطأ, والصحيح: عن عائشة موقوف, وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد وعكرمة والحسن وأبي مالك وأبي رزين والنخعي والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: لا تميلوا, وقد استشهد عكرمة رحمه الله ببيت أبي طالب الذي قدمناه, ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة, وقد رواه ابن جرير ثم أنشده جيداً واختار ذلك. وقوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: النحلة المهر, وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة: نحلة فريضة, وقال مقاتل وقتادة وابن جريج: نحلة أي فريضة. زاد ابن جريج: مسماة, وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب, يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها, وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب, ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذباً بغير حق, ومضمون كلامهم: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتماً, وأن يكون طيب النفس بذلك كما يمنع المنيحة ويعطي النحلة طيباً بها كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيباً بذلك فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالاً طيباً, ولهذا قال: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن السدي عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة عن علي قال: إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك فليبتع بها عسلاً ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئاً مريئاً شفاء مباركاً. وقال هشيم عن سيار عن أبيصالح قال: كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك, ونزل {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن سفيان عن عمير الخثعمي عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن بن البَيْلماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} قالوا: يا رسول الله فما العلائق بينهم ؟ قال: «ما تراضى عليه أهلوهم» وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطأة عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن البَيْلماني عن عمر بن الخطاب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنكحوا الأيامى ـ ثلاثا ـ» فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله ما العلائق بينهم ؟ قال: «ماتراضى عليه أهلوهم» ابن البَيْلماني ضعيف ثم فيه انقطاع أيضاً.

** وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاً * وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىَ حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً
ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياماً, أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام, فتارة يكون الحجر للصغر, فإن الصغير مسلوب العبارة, وتارة يكون الحجر للجنون, وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين, وتارة للفلس, وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها, فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه, حجر عليه, وقال الضحاك عن ابن عباس, في قوله {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} قال: هم بنوك والنساء, وكذا قال ابن مسعود والحكم بن عيينة والحسن والضحاك: هم النساء والصبيان, وقال سعيد بن جبير: هم اليتامى, وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: هم النساء, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وإن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها» ورواه ابن مردويه مطولاً وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن مسلم بن إبراهيم, حدثنا حرب بن سُريح, عن معاوية بن قرة, عن أبي هريرة {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} قال: هم الخدم, وهم شياطين الإنس, وقوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, يقول: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤونتهم ورزقهم, وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن فراس, عن الشعبي, عن أبي بردة, عن أبي موسى, قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها, ورجل أعطى ماله سفيهاً, وقد قال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}, ورجل كان له على رجل دين فلم يُشهِد عليه, وقال مجاهد: {وقولوا لهم قولاً معروف}, يعني في البر والصلة, وهذه الاَية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة ومن تحت الحجر بالفعل من الإنفاق في الكساوي والأرزاق والكلام الطيب وتحسين الأخلاق, وقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} قال ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان: أي اختبروهم {حتى إذا بلغوا النكاح} قال مجاهد: يعني الحلم, قال الجمهور من العلماء البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم, وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد, وفي سنن أبي داود عن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل» وفي الحديث الاَخر عن عائشة وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة, عن الصبي حتى يحتلم, وعن النائم حتى يستقيظ, وعن المجنون حتى يفيق», أو يستكمل خمس عشرة سنة وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر, قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني, وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني, فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج, وهي الشعرة, هل تدل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال, يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة, وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغاً في حقهم لأنه لا يتعجل بها إلى ضرب الجزية عليه. فلا يعالجها, والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة بعيد, ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عطية القرظي رضي الله عنه, قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة, فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى سبيله, فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي, وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه, وقال الترمذي: حسن صحيح وإنما كان كذلك لأن سعد بن معاذ كان قدحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية, وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الغريب: حدثنا ابن علية عن إسماعيل بن أمية, عن محمد بن يحيى بن حبان, عن عمر, أن غلاماً ابتهر جارية في شعره, فقال عمر رضي الله عنه: انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد, قال أبو عبيد: ابتهرها أي قذفها, والابتهار أن يقول فعلت بها وهو كاذب, فإن كان صادقاً فهو الابتيار, قال الكميت في شعره:
قبيح بمثلي نعت الفتاةإما ابتهاراً وإما ابتياراً

وقوله عز وجل: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} قال سعيد بن جبير: يعني صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة وهكذا قال الفقهاء: متى بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله انفك الحجر عنه فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه, وقوله: {ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا} ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية {إسرافاً وبدارا} أي مبادرة قبل بلوغهم, ثم قال تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف} من كان في غنى عن مال اليتيم فليستعفف عنه ولا يأكل منه شيئاً, وقال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} قال ابن أبي حاتم: حدثنا الأشج, حدثنا عبد الله بن سليمان, حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة, {ومن كان غنياً فليستعفف} نزلت في مال اليتيم, وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا: حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه عن عائشة: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجاً أن يأكل منه, وحدثنا أبي, حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني, حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: أنزلت هذه الاَية في والي اليتيم {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} بقدر قيامه عليه. ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير عن هشام به, قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله أو قدر حاجته, واختلفوا هل يرد إذا أيسر ؟ على قولين (أحدهما) لا, لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً, وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي, لأن الاَية أباحت الأكل من غير بدل, قال أحمد: حدثنا عبد الوهاب, حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالاً ومن غير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك بماله» شك حسين, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر, حدثنا حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي يتيماً عنده مال وليس عنده شيء ما. آكل من ماله ؟ قال: «بالمعروف غير مسرف» ورواه أبو دواد والنسائي وابن ماجه من حديث حسين المعلم به وروى ابن حبان في صحيحه وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي عن جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز, عن عمرو بن دينار, عن جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله فيم أضرب يتيمي ؟ قال: «ما كنت ضارباً منه ولدك غير واق مالك بماله ولا متأثل منه مالاً» وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاماً وإن لهم إبلاً ولي إبل, وأنا أمنح في إبلي وأفْقر, فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتسقي عليها فاشرب غير مضر بنسل, ولا ناهك في الحلب, ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد به, وبهذا القول وهو عدم أداء البدل, يقول عطاء بن أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري. (والثاني) نعم, لأن مال اليتيم على الحظر, وإنما أبيح للحاجة فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة, وقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا ابن خيثمة, حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل, عن أبي إسحاق, عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم, إن استغنيت استعففت, وإن احتجت استقرضت, فإذا أيسرت قضيت.
(طريق أخرى) قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم, إن احتجت أخذت منه, فإذا أيسرت رددته, وإن استغنيت استعففت, إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} يعني القرض, قال وروي عن عبيدة وأبي العالية, وأبي وائل, وسعيد بن جبير في إحدى الروايات ومجاهد والضحاك والسدي نحو ذلك, وروي من طريق السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {فليأكل بالمعروف} قال: يأكل بثلاث أصابع, ثم قال: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} قال: يأكل من ماله يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم, قال وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك, وقال عامر الشعبي: لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه, رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب: حدثنا نافع بن أبي نعيم القارى قال: سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله تعالى: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} الاَية, فقالا: ذلك في اليتيم إن كان فقيراً أنفق عليه بقدر فقره, ولم يكن للولي منه شيء, وهذا بعيد من السياق, لأنه قال {ومن كان غنيا فليستعفف} يعني من الأولياء. {ومن كان فقير} أي منهم {فليأكل بالمعروف} أي بالتي هي أحسن كما قال في الاَية الأخرى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} أي لا تقربوه إلا مصلحين له, فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف وقوله: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم} يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذٍ سلموا إليهم أموالهم فإذا دفعتم إليهم أموالهم {فأشهدوا عليهم} وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه, ثم قال: {وكفى بالله حسيبا} أي وكفى بالله محاسباً وشهيداً ورقيباً على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم للأموال هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة مدخلة, مروج حسابها, مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله , ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم».